فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية}.
قال ابن عرفة: هذا إما خطاب لهم مباشرة أو بواسطة.
والأول: يمتنع لأنّ الله تعالى لم يباشرهم بالخطاب إلا على لسان نبيه إلا أن يكون الخطاب لجماعة أنبياء وهو بعيد.
والثاني: أيضا ممتنع لأنهم غائبون عن الخطاب، وفعل الآمر الغائب إنما يكون باللام فكيف يقول: {ادْخُلُوا}.
وأجيب باختيار أنه مباشرة، وأن قول الرّسول لهم منزل منزلة خطاب الله لهم قال الله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وكما يقول الملك: بنيت داري، وكاتبت فلانا بكذا وهو لم يفعله بنفسه، إنما فعله أعوانه وخدمه.
قال ابن عرفة: والقرية إن أريد بها بيت المقدس فصيغة أفعل للطلب، وإن أريد بها أريحا فهي للاباحة.
قيل لابن عرفة: هذا أمر ورد عقب الحظر فهو للإباحة مطلقا؟
فقال: لم يرد عقب الحظر القولي، وإنما ورد عقب الحظر الجبري المعلن بالبقاء في أرض وعدم التمكن في الخروج عنها أربعين سنة ولم يقع هنالك نهي بالقول حتى يكون هذا أمر بعده.
قيل له: قد قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقال: هذا إخبار عن واقع، لأنهم كلفوا بالبقاء فيها وعدم الخروج بل منعوا من ذلك فمقامهم ليس باختيارهم لأجل التكليف به، بل جبرا واضطرارا لأجل عدم قدرتهم على الخروج.
قال ابن عرفة: وعموم {حيث شئتم} مخصوص بالمساجد، فإنه يمتنع الأكل فيها.
قوله تعالى: {وادخلوا الباب سُجَّدًا}.
أعيد لفظ {ادْخُلُوا} لأجل وصفهم سجدا فليس بتكرار، والمراد بالسجود الركوع لتعذر الدخول حالة السجود أو يكون حالا مقدرة، فيكون الدخول سابقا على السجود.
واحتج ابن التلمساني على أن الواو لا تفيد ترتيبا بكون المقدم هنا مؤخرا في سورة الأعراف، فلو كانت الواو للترتيب للزم عليه: إما التنافي بين الآيتين، أو المجاز في أحدهما، وأجاب بأنه قصد تكليفهم بأن يقولوا: حطة حال كونهم قبل السجود وبعده، وأجاب أبو جعفر الزّبير بأنه قصد تكليفهم بالجمع بين السجود والقول في حالة واحدة لأن كلا الأمرين حصل له وصف الاهتمام بالتقديم.
قوله تعالى: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}.
قال الفخر الرّازي: يحتج بها على المعتزلة في قولهم: إن قبول التوبة واجب عقلا لأجل ما اشتملت عليه من أوصاف الامتنان بتعداد النعم، فغفران الخطايا نعمة وتفضل لا انّه واجب لأجل التوبة.
ورده ابن عرفة: بأنهم يقولون: إن الامتنان بهذه النعمة سبب لطريق التوبة والخطايا مرتفعة بالتوبة.
قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ المحسنين}.
قال ابن عرفة: لما تضمّن الكلام السابق حصول المغفرة لهؤلاء وعدم المؤاخذة بالذنب فقط من غير زيادة على ذلك أفاد هذا أن المحسنين لهم مع ذلك ثواب جزيل وعبر عنهم بالاسم تهييجا على الاتصاف بذلك وإشارة إلى أنّ الزيادة إنما هي لمن بالغ في الإحسان وحصل منه الحظ الوافر لينَالَها من حصل مطلقة وأدناه.
فإن قلت: لم قال هنا: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ}، وفي الأعراف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ} قلت: نقل لي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام أنه قَال: إن كانت القصة واحدة، وتلك مكررة بهذه، فعبر فيها ب {قيل لهم} عن قُلْنَا التي في هذه، وأخبر بما بعد الدخول وهو السكنى لالتزامها إيّاه وان كانا قصتين فتلك بعد هذه.
وأجاب أبو جعفر الزبير بأنهم أمروا أولا بالوسيلة وهو الدخول، ثم أمروا بالمقصد وهو السكنى.
قال الشيخ أبو جعفر: وعطف هنا بالفاء لأن الأكل من الموضع لا يكون إلا بعد الدخول عليه وعطف في الأعراف بالواو لأنّ السكنى قد تقارن الأكل، وقد يتأخر عنه، وقد يتقدم عليه.
قال ابن عبد السلام: أو هما قصتان أو يقال: لما فيهم التعقيب من الأول لم يحتج إلى إعادته في الثانية وقال هنا: {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}.
وأسقط في الأعراف رغدا لأن السكنى يفهم منها الملازمة والدوام وعطفها على الأمر بالأكل من حيث شاء، وأشعر بدوام الأكل من غير مانع فتحصل فيه معنى الرغد فأغنى عن ذكره هناك وقال هنا {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، وفي الأعراف على قراءة الجماعة غير أبي عمرو وابن عامر، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، مجموعة جمع سلامة ولأن آية البقرة بنيت على كثرة تعداد النعم فناسبت جمع الكثرة وآية الأعراف لم يبالغ فيها بكثرة تعداد النعم فناسبت جمع القلة وهو جمع السلامة.
وقلت: ونقل لي عن القاضي ابن عبد السلام أجاب بأن آية البقرة صدرت ب {إِذْ قُلْنَا} المكنى به عن الله تعالى فناسب جمع الكثرة ولما ذكر هنا {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} بحذف الفاعل فناسب جمع القلة، وقال هناك {وسَنَزِيدُ} بالواو وفي الأعراف بغير واو لأن البقرة بولغ فيها بتعداد ما لم يبالغ في الأعراف، أي ولنجزي المُحْسِنِينَ على مَا تَقَدّم من تعداد النعم بالعفو وزيادة الإحسان. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}.
القائل: هو الله تعالى، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام، قولان: وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم.
هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازيًا تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل.
ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو.
والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: {ولا تقربا هذه} مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.
والقرية هنا بيت المقدس، في قول الجمهور، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم.
وقيل: أريحا، قاله ابن عباس أيضًا، وهي بأرض المقدس.
قال أبو زيد عمر بن شبة النمري: كانت قاعدة ومسكن ملوك، وفيها مسجد هو بيت المقدس، وفي المسجد بيت يسمى إيليا.
وقال الكواشي: أريحا قرية الجبارين، كانوا من بقايا عاد، يقال لهم: العمالية ورأسهم: عوج بن عنق، وقيل: الرملة، قاله الضحاك؛ وقيل: أيلة، وقيل: الأردن؛ وقيل: فلسطين؛ وقيل: البلقاء؛ وقيل: تدمر، وقيل: مصر؛ وقيل: قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل: الشام.
روي ذلك عن ابن كيسان، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة: {ادخلوا الأرض المقدّسة} قيل: ولا خلاف، أن المراد في الآيتين واحد.
وردّ هذا القول بقوله: {فبدّل} لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس.
وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى، وهذا الجواب وهم، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله: {ادخلوا الأرض المقدّسة} واحد، والقائل ذلك في آية المائدة قطعًا.
ألا ترى إلى قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة}، وقولهم: {قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين} قال وهب: كانوا قد ارتكبوا ذنوبًا، فقيل لهم: {ادخلوا} الآية.
وقال غيره: ملوا المنّ والسلوى، فقيل لهم: اهبطوا مصرًا، وكان أوّل ما لقوا أريحا.
وفي قوله: {هذه القرية} دليل على أنهم قاربوها وعاينوها، لأن هذه إشارة لحاضر قريب.
قيل: والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين، ولم يكن موسى {معهم حين} دخلوها، فإنه مات هو وأخوه في التيه.
وقيل: لم يدخلا التيه لأنه عذاب، والله لا يعذب أنبياءه.
{فكلوا منها حيث شئتم رغدًا}: تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله: {وكلا منها رغدًا حيث شئتما}، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء، وهناك تقديم الرغد على الظرف، وهنا تقديم الظرف على الرغد، والمعنى فيهما واحد، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء، قيل: وهو المعنى الكثير فيها، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان، وإن كانت قد ترد بالعكس، وهو قليل.
وللمعية والزمان، وهو دون الأول، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله: {فكلا} بالفاء، والقضية واحدة.
وأما تقديم الرغد هناك فظاهر، فإنه من صفات الأكل أو الآكل، فناسب أن يكون قريبًا من العامل فيه ولا يؤخر عنه، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلًا مؤثرًا المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده، ألا ترى أن قوله: {فكلوا منها حيث شئتم رغدًا} وقوله: {وادخلوا الباب سجدًا}، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا، والله أعلم، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين.
{وادخلوا الباب}: الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية، والباب أحد أبواب بيت المقدس، ويدعى الآن: باب حطة، قاله ابن عباس؛ أو الثامن، من أبواب بيت المقدس، ويدعى باب التوبة، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
{سجدًا} نصب على الحال من الضمير في ادخلوا، قال ابن عباس: معناه ركعًا، وعبر عن الركوع بالسجود، كما يعبر عن السجود بالركوع، قيل: لأن الباب كان صغيرًا ضيقًا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفًا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعًا، فلا يحتاج فيه إلى الأمر، وهذا لا يلزم، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب.
وقيل: معناه خضعًا متواضعين، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب، ونذكر وجه اختياره لذلك.
وقيل: معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: ادخلوا ساجدين شكرًا لله تعالى، إذ ردهم إليها.
وهذا هو ظاهر اللفظ.
قال أبو عبد الله بن أبي الفضل: وهذا بعيد، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة، فالتائب عن الذنب لابد أن يكون خاشعًا مستكينًا، وما ذهب إليه لا يلزم، لأن أخذ الحال مقارنة، فتعذر ذلك عنده، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون.
وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا.
وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخيًا عن الدخول، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب.
من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا.
وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيرًا، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى.
وقال الزمخشري: أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب، شكرًا لله وتواضعًا، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود.
فالسجود ليس مأمورًا به، بل هو قيد في وقوع المأمور به، وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديًا إسناديًا، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلامًا ومن حيث الإسناد يكتفي، فظهر التناقض.
وفي كيفية دخولهم الباب أقوال: قال ابن عباس وعكرمة: دخلوا من قبل أستاههم، وقال ابن مسعود: دخلوا مقنعي رؤوسهم، وقال مجاهد: دخلوا على حروف أعينهم، وقال مقاتل: دخلوا مستلقين، وقيل: دخلوا منزحفين على ركبهم عنادًا وكبرًا، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم.
فاضمحلت هذه التفاسير، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وقولوا حطة}، حطة: مفر، ومحكي القول لابد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديرًا لحسن بن أبي الحسن.
وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقال غيرهما: التقدير أمرك حطة.
وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها.
قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:
صبر جميل فكلانا مبتلى

والأصل صبرًا.
انتهى كلامه، وهو حسن.
ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:
صبرًا جميلًا فكلانا مبتلي

بالنصب.
والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:
إذا ذقت فاهًا قلت طعم مدامة ** معتقة مما تجيء به التجر

روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة.
قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى.
وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدرًا نحو: قلت قولًا، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقًا، أو معبرًا به عن جملة نحو: قلت شعرًا وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحدًا من هذه.
ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي.
وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلًا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى.
ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام.
أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله: {حطة} مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعًا من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعًا بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:
سمعت الناس ينتجعون غيثا ** وجدنا في كتاب بني تميم

أحق الخيل بالركض المعار

فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفردًا وقد يكون جملة.
وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها.
واختلفت أقوال المفسرين في حطة، فقال الحسن: معناه حط عنا ذنوبنا، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب: أمروا أن يستغفروا، وقال عكرمة: معناها لا إله إلا الله، وقال الضحاك: معناه وقولوا هذا الأمر الحق، وقيل: معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي.
وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير.
وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، قيل: والأقرب خلافه، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولًا دالًا على التوبة والندم والخضوع، حتى لو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لكان الخضوع حاصلًا، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها.
{يغفر}، نافع: بالياء مضمومة، ابن عامر: بالتاء، أبو بكر من طريق الجعفي: يغفر، الباقون: نغفر.
فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات، لأن صدر الآية: {وإذ قلنا} ثم قال: {يغفر}، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد، ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا على القول الدال عليه وقولوا، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازًا لما كان سببًا للغفران، ومن قرأ بالنون، وهي قراءة باقي السبعة، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله: {وإذ قلنا}، وما بعده من قوله: {وسنزيد}، فالكلام به في أسلوب واحد، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ {خطاياكم}، وأمالها الكسائي.
وقرأت طائفة: تغفر بفتح التاء، قيل: كأن الحطة تكون سبب الغفران، يعني قائل هذا وهو ابن عطية، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سببًا للغفران.
وقد بينا ذلك قبل، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من: {وقولوا}، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز، إذ كانت سببًا للغفران.
وقرأ الجحدري وقتادة: تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة.
وروي عن قتادة: يغفر بالياء مضمومة.
وقرأ الأعمش: يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة.
وقرأ الحسن: يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم.
وقرأ أبو حياة: تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم.
وحكى الأهوازي أنه قرأ: خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة.
وحكى عنه أيضًا العكس.
وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله:
وخندف هامة هذا العألم

فلأن يهمزوا هذا أولى، وهذا توجيه شذوذ.
ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان: خطاياكم، أو خطياتكم، أو خطيتكم مفعولًا لم يسم فاعله، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون، كان ذلك مفعولًا، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر.
وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، وذكرنا الخلاف في ذلك.
وهنا تقدمت أوامر أربعة: {ادخلوا}، {فكلوا}، {وادخلوا الباب}، {وقولوا حطة}، والظاهر أنه لا يكون جوابًا إلا للآخرين، وعليه المعنى، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود، وبقوله: {وقولوا حطة} لأن فيه السؤال بحط الذنوب، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة.
ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى: {وقولوا حطة}، {وادخلوا الباب سجدًا}، {نغفر}، والقصة واحدة.
فرتب الغفران هناك على قولهم حطة، وعلى دخول الباب سجدًا، لما تضمنه الدخول من السجود.
وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع.
وقرأ من الجمهور: بإظهار الراء من نغفر عند اللام، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف.
{وسنزيد}: هنا بالواو، وفي الأعراف {سنزيد}، والتي في الأعراف مختصرة.
ألا ترى إلى سقوط رغدًا؟ والواو من: {وسنزيد}، وقوله: {فأرسلنا عليهم} بدل، {فأنزلنا على الذين ظلموا}، وإثبات ذلك هنا، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك.
والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم، وضده النقص.
{المحسنين}، قيل: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة، وقيل: المحسنين منهم، فقيل: معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثوابًا ودرجات، وقيل: معناه من كان محسنًا منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئًا بعد ذلك زدناه ثوابًا ودرجات، وقيل: معناه من كان محسنًا منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئًا مخطئًا نغفر له خطيئته، وكانوا على هذين الصنفين، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجدًا وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم.
وقيل: المحسنون من دخل، كما أمر وقال: لا إله إلا الله، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم.
فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي، أي كان محسنًا، أو في المستقبل، أي من أحسن منهم بعد، أو في الحال، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجدًا والقول حطة.
وهذه الجملة معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}، وليست معطوفة على نغفر فتكون جوابًا، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله: {سنزيد}؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجدًا.
والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله. اهـ.